"يجول Yagoul" مشروع يهدف لإثراء المحتوى العربي على الانترنت في كافة المجالات والمواضيع من التعليم والثقافة والاعمال والسفر والسيارات وغيرها ..
كما يعمل ان يصبح واحداً من اكبر مصادر المعلومات العربية على الانترنت من أجل مساعدة الباحثين ورواد المعرفة والمستخدمين من مختلف الفئات في ايجاد المعلومة بسهولة من خلال تصنيف "يجول" هو الوصول الاسرع للمعرفة.
فرحة ودمعة
a year ago

قصة الميت الضاحك
قصة الميت الضاحك قصة رائعة مأخوذة من كتاب الذين ضحكوا حتى البكاء، قصة مليئة بالدراما والمشاعر نترككم مع هذة القصة الرائعة:

اليوم عيد ميلاده .. و حينما تدق الساعة العاشرة صباحاً .. يصبح عمره 56 سنة ..
لا زوجة و لا أولاد .. صيدلي في الأرياف .. مكسبه على قدر نفقته .. يتحرك ببطء من أثر روماتِزم مزمن ، و سكر ، و ضغط دم مرتفع ، و تصلب شرايين ، و نزيف متكرر بالعين اليسرى ..
آخر مرة ذهب إلى الطبيب لفحص قاع العين كان يشكو من صداع حاد .. و قال له الطبيب .. لابد من عمل أشعة مقطعية للمخ .
و سافر إلى القاهرة لعمل الأشعة .. و عاد يمشي ببطء أكثر و في يده حكم بالإعدام .

لقد كشفت الأشعة عن وجود ورم بالمخ .. و الجراحة مستحيلة .. و أيامه الباقية معدودة .. كانت الورقة التي يحملها أشبه بترخيص الدفن ..
و طوال الطريق و هو يطل من نافذة القطار عائداً إلى قريته .. و أعمدة التلغراف تجري بسرعة أمام بصره الكليل .. كان يستعرض عمره الخاوي الذي لم يصنع فيه شيئاً ..

أيام الطفولة و هو جالس في حجر أبيه على شاطئ الترعة .. و أبوه يدلي بالسنارة في الماء و ينتظر الساعات في صبر عجيب حتى يظفر ببلطية أو كركور .. و حينئذ تكون الفرحة ، و يعودان بالصيد الثمين إلى البيت ، و تجتمع الأسرة حول الكركور لتشويه على الفحم و تتقاسمه و تأكله بلذّة و هي تعصر عليه الليمون .

و أيام الصبا و البسكليتة التي اشتراها له أبوه لنجاحه في الإبتدائية .. كانت البسكليتة الوحيدة في القرية .. و كان الكل يحسده عليها و هو يجري بها إلى البندر كل يوم .. و يجلجل بأجراسها المعدنية ..
ثم يعود آخر النهار يحمل عليها حقيبة كتبه و مشتروات البندر .. و أعزها علب الشيكولاتة النستلة .

و أيام الثانوية .. و لعب الكورة .. و السَبَق .. و أفلام طرزان .. و روبن صن كروزو ..
ذلك الفتى العجيب الذي تحطمت به السفينة و ألقته على شاطئ مهجور لجزيرة مهجورة و بدأ يصنع لنفسه عشاً من الجريد و فروع الشجر ، و كانت أسرته الوحيدة هي العصافير و الغزلان و كلبه الوحيد الذي لم يفارقه .. و مغامراته اليومية مع وحوش الغاب ..
و ظلت هذه الجزيرة المهجورة .. و الوِحدة بين وحوش الغاب .. هي الصورة التي تُلِح عليه و تطارده .. و الإحساس الدائم الذي يسيطر عليه .. كلما تلفت حوله في العالم الذي يشبه الغابة .

و انفجر الدم فجأة ليغطي على السيناريو و يصبغ الذكريات بلون أحمر مشتعل .
الأب القتيل .. برصاصة غادرة من الخلف ..
و الأعمام المُتَهمون لخلاف على الأرض .. و الإرث الملعون .. و مستندات مزيفة .. و تحقيق و بوليس و نيابة و محامون .. ثم براءة و إفراج لعدم كفاية الأدلّة ..

و يخرج القتَلة أحراراً ليعاوِدوا الإجرام .
لقد نهبوا الأرض .. و ازدادوا ثروة .. و ازدادوا قوة .. و أصبحت لهم مخالب .

و هم اليوم سادة البلد .. ينحني أمامهم الكل ، و يخطب ودهم الكل
و هم نوّاب في برلمان فاروق
و هم في الإتحاد الإشتراكي أيام عبد الناصر
و هم في مجلس الشعب ..
ثم في مجلس الشورى ..
ثم نجوم و سادة في الحياة العامة و أصحاب ملاين ..

الكل يعلم أنها من المخدرات و لكن لا أحد يستطيع أن يفتح فمه .. و لا يملك أحد أي دليل .. لأنهم لا يلمسون البضاعة ..
هم بارونات .. لهم وكلاء يقومون بالعملية القذرة .. أما هم فيغسلون أيديهم من كل شيء .. و يديرون عملياتهم من وراء واجهة من الشركات و التوكيلات التجارية ..

و هم وُجهَاء لا يظهرون في القرية إلا نادراً .
و أغلب الوقت هم في جنيف و باريس و لندن و روما .. لا تعرف أخبارهم إلا من الصحف ..

و أسند رأسه إلى نافذة القطار و عادت مطارق الصداع تدق رأسه ..
و كانت أعمدة التلغراف ماتزال تجري بسرعة ، و تتراقص أمام عينيه كسراب في بحيرة الصداع .. و في الخلفية يبدو العالم كله أشبه بغابة تعوي فيها الوحوش .. و هو وحيد .. وحيد ..

و تطفو وجوههم واحداً واحداً في ذاكرته ..
الآن قتلاهم بلا عدد .. و كلهم شباب تتصيدهم شبكة الإدمان .. فلا يخرجون منها إلا في توابيت .. أو إلى مصحات عقلية .

و راح يمسح على رأسه المصدوع ..
لقد نسي تماماً سنوات الجامعة في القاهرة في كلية الصيدلة .. و نسي تفاصيلها .

صورة أبيه القتيل لطَّخة هذه السنوات و أغرقتها في وَهَج دموي ، و لوَّنَت شبابه بلون الدم ..
لم يستطع نسيان هذا الأب الطيب الحنون أبداً ، و ظل يشعر دائماً أنه مازال جالساً على حِجرِه على شاطئ الترعة ينتظر غمزة السنارة و ارتعاشة الكركور و رائحته على الشواية .. و طعمه بالليمون .. و فرحة السرة .. و ابتسامة الأب التي تشبه حضن حنان يضم كل شيء .. ثم الرصاصات الغادرة و نافورة الدم .
..
توقفت حياته عند هذه الصورة لم تبرحها ..
لم يستطع أن يتزوج .. لم يستطع أن يحب ..
لم يستطع أن يمتزج بالناس و يبادلهم الحياة ..

تجمد شيء في داخله .. ثم وقع فريسة الأمراض .. و داهمته شيخوخة قبل أوانها .. و ابيض شعره و هو مازال في الأربعين .. و لم يفكر أن يبرح القرية ، و اكتفى بأن يكون صيدلي أرياف .. و تقلصت أحلامه إلى حلول بسيطة متواضعة .. و كان يشعر بالفزع في الأيام القليلة التي ينزل فيها القاهرة لقضاء المشاوير الضرورية .
كان الزحام و الضوضاء و تدافع الأكتاف و الهَرَج يصيبه بالفزع .. و يُشعِره بالغربة و الإنفصال و كأنه مخلوق آخر غريب .. أجنبي على هذا العالم ، سقط عليه من كوكب آخر ..

كانت المدينة تبدو له قاسية ، فظَّة تنتهك عليه وحدته و خصوصيته .
و كان يسعى في طرُقاتها و قد أحاط نفسه بهذه القوقعة من الخوف و العُزلة ..
لا ترتد إليه نفسه إلا حينما يعود إلى القرية ، و يسمع أنين السواقي و زقزقة العصافير على شجرة التوت الحانية التي تنام فروعها على نافذته .
و في آخر النهار حينما يريح رأسه على الوسادة .. كان يؤلمه أن عمره الطويل .. و سنواته الثماني و الستين لم تُثمِر شيئاً ..
الشجرة العجوز عند نافذته تثمر التوت كل ربيع ، و لوزات القطن الأبيض تغطي الحقل ، و زهر البرتقال يتوج الشجر ..
و هو لم يُثمر شيئاً بطول ثمان و ستين سنة .
أيامه عقيمة .. و سنواته عقيمة .. لم يصنع بها شيئاً ..

لقد قُتِلَ هو الآخر يوم قُتِل أبوه .
قتلته نفس الرصاصة الغادرة من الخلف .. قتلت فيه الأمل و الطموح و المستقبل .. و لم تُبقِ منه إلا شبحاً .
و كانت تراوده الرغبة في أن يصحو يوماً من هذا الموات .. و أن يفعل شيئاً .. أي شيء يدل على أنه حيّ .

و الآن لم تبق له إلا أيام معدودة .. و ربما ساعات معدودة .. و ربما دقائق معدودة .. لا أحد يدري .. فماذا تبَقى له أن يفعل .. ؟؟

و كان القطار يُبطئ في سيره و يدخل المحطة .
و قام يتحامل على نفسه و يجر ساقَيهِ .

و نزل إلى المحطة فوجد أعلاماً و زينات و لافتات ، و تذكر أنه يوم مشهود و أن رئيس الوزراء على وشك الوصول ، و أن رجال التليفزيون و الإذاعة يملأون القرية التي تحتفل اليوم بافتتاح مشروعات وهدان .. مائة فدان فواكه ، و مزرعة دواجن ، و مركز تربية عجول ، و ثلاجات للعصائر ، و وابور طحين ، و صناعات جبن و ألبان ..
و صور الحاج وهدان تغطي جدران المحطة و قد كُتب عليها بالخط العريض .. المحسن الكبير .. و الرجل المؤمن .. و المُصلِح العظيم .. و الرائد الإجتماعي .. نائب القرية و راعيها .. الحاج وهدان ..

و ما كان الحاج وهدان سوى البارون الكبير الذي ترك قصره في باريس ، و عاد إلى قريته ليكون نجم هذا الحفل الإعلامي .. و عريس هذه الزفة ، حيث يقف إلى يمين رئيس الوزراء يتلقى التهاني و الدعوات .
و ما كان المشروع كله في لغة أهل الحرفة .. إلا محاولة لغسل أموال المخدرات .. و تنظيف للواجهة التي تتجمع عليها أتربة الإشاعات من وقت لآخر .. و لزوم الوجاهةه ..

إنه إذن العم العزيز .. و لقاء على غير ميعاد .. بعد أكثر من أربعين سنة من الحادث .

و مسح الرجل على رأسه المصدوع و هو يحاول أن يتذكر ملامح العم العزيز .. إنه في الصور يبدو شباباً .. فهل هو كذلك .. ؟
و ذهب إلى صيدليته و تكَوَّم على الكرسي ، و غرق في الذكريات .

لم يصحو منها إلا على أصوات الموكب .. و رتل العربات الفاخرة .. ثم عربة تقف أمامه و ينزل منها السائق مسرعاً ليُقبِل عليه طالباً نوعاً من الإسبرين للحاج .

و قال الصيدلي في حماس .. أنا أعرف الإسبرين الذي يستعمله .. و سآخذه له بنفسي .. و اختطف العلبة و أسرع بها إلى العربة .. و وقف يناولها إلى الحاج وهدان .

- مين ؟
- انت مش فاكرني يا حاج وهدان .. انت نسيت صبحي .. ؟!
- مش معقول تكون صبحي .. ده انت عجِّزت أوي .. و راسك بقت كِتَّانة بيضة .
- من الأيام يا حاج .
- انت مش حاتيجي تحتفل معانا والا إيه .. ؟
- حاجي طبعاً .. و معقول يفوتني اليوم السعيد ده .. !

و انفلت إلى اجزخانته .. ليحضر شيئاً من درج مقفل يضعه في جيبه ثم يعود مسرعاً لينضم إلى رتل العربات .

و وصل الموكب إلى العزبة ، و كانت قلاشات الكاميرات تومض كالبرق الخاطف في عتمة الغروب ، و كان الحاج يتأبط ذراع رئيس الوزراء و يتنقَل به في أرجاء مشروعه .. و من لحظة لأخرى يتوقف ليشرح .. و تقدم أحد الصحفيين من رئيس الوزراء يسأله .. و رئيس الوزراء يبارك و يهنئ و يُثني على العمل الجاد .

- الحاج مثال عظيم للمواطن .. و لو كل واحد عمل زي الحاج كانت اتحلت كل المشاكل في بلدنا ..

و الحاج يشاور على الماكينات ..
- المصنع ده أنا جبته كله من ألمانيا الغربية .. و الثلاجات كلها صناعة فرنسية .. و وابور الطحين إنجليزي .. و مصنع الأجبان هولندي .

و أصوات من كل مكان حوله :
- عظيم .
- عظيم .
- عظيم .
- هايل .
- همة مفيش زيها .
- و كل ده تم في 18 شهر .
- إزاي ؟!
- دي معجزة .
- ده سد عالي تاني .
- دي بلدنا حاتبقى أوروبا .
- ده احنا حظنا من السما .
- كل ده بنَفَس الحاج الكبير .
- ادعو للحاج الكبير يا رجاله .
- ربنا يخلي لنا الحاج يا رب و يطَوِّل في عمره كمان و كمان .
- و مين حايدرب الأهالي على الشغل هنا .
- فيه مهندسين و خُبَرا .
- ده انت مانستشي حاجة يا وهدان بيه .
- كل شيء حايشتغل بلمسة واحدة للزرار ده .. كده هوه .. كله دلوقت داير .. أوتوماتيكي .
- مش معقول .
- هايل .
- عظيم .
- معجزة .
- بسم الله ما شاء الله .
- مبروك علينا يا رجاله .

و كان صبحي الصيدلي أقرب ما يكون غلى الحاج حينما استدار الحاج نحوه ليسأله :
- إيه رايك يا صبحي ؟

و في لحظة خاطفة أخرج صبحي الطبنجه من جيبه ليقول له رأيه الذي احتفظ به من أربعين سنة .. و أفرغ في قلبه رصاصة واحدة غادرة ..
هذه المرة من الأمام و على شاشات التليفزيون .. و على مرأى من عشرة ملايين مُشاهِد .. رداً على رصاصة غادرة من الخلف قتلت أباه في الظلام دون أن تراها عين . و سقط المجرم العُتُل يتخبط في دمه .. بينما انطلقت عشر رصاصات من الحرس لتصل إلى صدر صبحي .. و لكن بعد فوات الأوان ..

فقد كان قد بدأ يموت ميتة طبيعية بسبب نزيف الورم المخي .. و كان يضحك .

و مات صبحي قبل أن تصل إلى قلبه الرصاصات العشر .

مــات و هو يضحـــك ..

كان يضحك على جريمة أخرى إرتكبها الحرس بلا جدوى .. فقد قتلوا هذه المرة رجلاً ميتاً و حملوا إثماً دونما داعٍ .. فقد سبقهم السرطان و أعفاهم ، و لكنهم أصروا على الإثم .. و مثَّلوا بجثة رجل ميت ..
و لهذا كان يضحـــك ..

و كان الميت الوحيد الذي ذهب إلى قبره و هو يضحــك .

و قد استراح ضميره .. فقد صنع شيئــاً .. في اللحظة الأخيرة .. قبل أن يُسدَل الستـــار .

نتمنى أن تكونوا استمتعتم معنا بهذة القصة الرائعة.